الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
وقال عطاء: يجوز له أن يقصر، وإن لم يخرج عن بيوت القرية. وحكي: أن الحارث بن ربيعة: أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله بن مسعود. وقال قتادة: إذا جاوز الجسر أو الخندق قصر. وقال مجاهد: إذا خرج بالنهار فلا يقصر إلى الليل، وإذا خرج بالليل فلا يقصر إلى النهار. دليلنا على مجاهد: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]. وهذا قد ضرب. وعلى الحارث: أن من كان في بيته، ولم يفارق البنيان فلم يضرب. وروى أنس قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين». وروي عن علي بن ربيعة: أنه قال: (خرجت مع علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقصر ونحن نرى البيوت). إذا ثبت هذا: فإن كان بطرف البلد مساكن خربت وخليت من السكان، إلا أن الجدران قائمة لم يقصر، حتى يفارقها؛ لأن السكنى فيها ممكن، فإن تهدمت، وذهبت قواعدها جاز له القصر قبل مفارقتها؛ لأنها لا تسكن. وإن كان حيطان البساتين متصلة بحيطان البلد فله أن يقصر إذا فارق حيطان البلد، وإن لم يفارق حيطان البساتين؛ لأنها ليست بمبنية للسكنى. قال ابن الصباغ: وإن كان في وسط البلد نهر يجري مثل بغداد، فأراد رجل سفرًا يجتاز فيه إلى الجانب الآخر، لم يجز له أن يقصر، حتى يفارق بنيان الجانب الآخر والنهر، والماء ليس بحائل، ألا ترى أنه لو كان في وسط البلد رحبة واسعة ميدانًا لم يقصر حتى يفارقها، فالنهر أولى بالمنع لتعلق المنافع به. فإن كان هناك قريتان، فاتصل البناء بينهما، حتى صارتا قرية واحدة لم يقصر حتى يفارق جميعها، وإن كان بينهما فضاء قصر إذا فارق القرية التي هو فيها، وإن لم يفارق القرية الأخرى. وقال أبو العباس بن سريج: إذا كان بينهما قريب، فهما كالقرية الواحدة. والمذهب الأول؛ لأن كل واحدة من القريتين منفصلة عن الأخرى، فثبت لكل واحدة حكم نفسها.
قال أبو إسحاق المروزي: معنى هذا: إذا كان الحين بطونًا، فلكل بطن حكم نفسه. وإن كان في الصحراء، فنقل المزني: (أنه لا يقصر، حتى يفارق موضعه). وقال في "الأم" [1/162] (حتى يفارق البقعة التي فيها موضعه) وهذا صحيح، لا يقصر حتى يفارق الموضع الذي يسكن فيه، ويكون فيه رحله، وقماشه، وتصرفه. قال الشافعي: (فإن كان في عرض الوادي، فحتى يقطع عرض الوادي، وإن كان في طول الوادي، فحتى ينبت عن موضع منزله). وقال أكثر أصحابنا: إنما اشترط قطع عرضه، إذا كانت البيوت في جميع عرض الوادي، وإن كانت البيوت في بعضه، فيقصر إذا فارقها، وإن كان في عرض الوادي. وقال القاضي أبو الطيب: لم يشترط الشافعي ما ذكروه بل أطلق، وإنما قال ذلك؛ لأن جانبي الوادي بمنزلة السور على البلد؛ لأنهم إنما اختاروا النزول في الوادي؛ ليتحصنوا بجانبيه، كما يتحصن أهل البلد بسوره، فينبغي ألا يقصر، حتى يفارقه.
قال في " الإملاء " والقديم: (فإن فارق البنيان، وشرع في الصلاة، فرعف، وانصرف إلى البنيان، فغسل الدم لم يجز له أن يتم الصلاة قصرًا، ووجب عليه الإتمام؛ لأنه يتم في البنيان). وعلى القول الجديد: تبطل صلاته، فإن أراد أن يستأنف، أتم الصلاة في البنيان، فإن خرج من البنيان استأنفها مقصورة. وإن خرج وأقام في موضع خارج البلد، ينتظر القافلة، فإن نوى أنه ينتظر دون الأربع إن اجتمعت، وإلا سافر كان له أن يقصر؛ لأنه قد قطع بالسفر، وإن نوى أنه لا يسافر، حتى تجتمع القافلة وإلا ترك السفر، لم يكن له أن يقصر؛ لأنه لم يقطع على السفر.
وقال أبو حنيفة: (القصر عزيمة، فلا يفتقر إلى نية). وقال المزني: لا تختص نية القصر بأول الصلاة، بل لو نوى القصر في أثناء الصلاة جاز له القصر. وقال المغربي: لو نوى الإتمام، ثم نوى أن يقصر في أثناء الصلاة، كان له أن يقصر. فأما أبو حنيفة: فقد مضى الدليل عليه، وأن القصر ليس بعزيمة. ودليلنا على المزني: أن كل نية افتقرت إليها الصلاة، كان محلها عند الإحرام، كنية الصلاة. ودليلنا على المغربي: أنه أحرم بالصلاة تامة، فلم يجز له القصر بعد ذلك، كما لو أحرم بها في السفينة بدار الإقامة، ثم سافر.
ولو نوى هذا المسافر التمام لم تفسد صلاته، ولزمه التمام، هذا مذهبنا. وقال مالك: (إذا نوى المسافر القصر لم يكن له أن ينوي الإتمام؛ لأنه نوى عددًا، فإذا زاد عليه حصلت الزيادة بغير نية) وهذا ليس بصحيح؛ لأن نية الزيادة على العدد لا تعتبر لها النية؛ لأن نية صلاة الوقت تجزئ لهما، كما قلنا في النافلة إذا نواها ركعتين، كان له أن ينويها أربعًا في أثنائها.
وقال طاوس، والشعبي، وإسحاق: يجوز له القصر. وقال مالك: (إن أدرك معه ركعة لزمه التمام، وإن كان دونها لم يلزمه). دليلنا ما روي: أنه «سئل ابن عباس: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ ! فقال:تلك السنة»؛ وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والدليل على مالك: أنه مؤتم بمقيم فلزمه التمام، كما لو أدرك معه ركعة.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو فاتته الصلاة في السفر، وأراد قصرها -على القول الذي يجوز له القصر- وائتم بمن يصلي الصبح لزمه التمام؛ لأن الصبح صلاة تامة.
أن يرى عليه زي المقيمين لا زي المسافرين، فإن عليه أن ينوي التمام؛ لأن الظاهر من حاله أنه مقيم، وإن ائتم بمن يعلم أنه مسافر، أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر فهل له أن ينوي القصر، أو يعلق نيته بنية إمامه؟ فيه وجهان، ذكرهما ابن الصباغ: أحدهما: ينوي القصر، ولا يجوز تعليق نيته بنية غيره، كما لا يجوز أن ينوي الصلاة التي عليه إذا نسيها، ولم يعلم عينها. والثاني: يجوز تعليق نيته بنية إمامه؛ لأن صلاته تقع بحسب صلاة الإمام إذا نواها مقصورة، فجاز أن يعلقها بنية الإمام. فإن اقتدى المسافر بمن ظنه مسافرًا، ونوى القصر، فبان أن الإمام مقيم محدث، أو مسافر نوى الإتمام وهو محدث، فإن تبين له الأمران معًا، أو بان له حدثه قبل إقامته، فهل للمؤتم به أن يقصر هذه الصلاة؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول ابن القاص، ولم يذكر ابن الصباغ غيره: أن له أن يقصرها؛ لأن صلاة الإمام لم تنعقد، فلم يلزم المؤتم به التمام. والثاني حكاه الطبري في " العدة": ليس له أن يقصر؛ لأنه قد صح اقتداؤه به، إذا لم يعلم حدثه، ولهذا لا إعادة على من يقتدي به، إذا علمه بعد. وأما إذا بان له أنه مقيم، أو أنه نوى الإتمام أولًا، ثم بان له حدثه، فعليه أن يتم هذه الصلاة، وجهًا واحدًا. وكذلك لو ظنه مقيمًا، فاقتدى به، ثم بان أنه مسافر محدث، أو غير محدث، فإن المأموم يلزمه إتمام هذه الصلاة؛ لأنه قد التزم إتمامها، فلم يسقط عنه بما بان بعد ذلك. وإن ائتم المسافر بمقيم، أو بمن نوى الإتمام، أو لم ينو القصر، أو نوى الائتمام فإنه يلزمه في هذه المسائل الإتمام. فإن أفسد صلاته لزمه إعادتها تامة؛ لأنه قد التزمها تامة بإحرامه الأول، فإن بان أن المأموم كان محدثًا فيه جاز له أن يعيدها مقصورة؛ لأنه بان أن إحرامه كلا إحرام.
وإن لم يعلم ذلك، بل ظن أنه أتم الصلاة لأمر ما لزمه متابعته؛ لأن الظاهر أن ما يأتي به الإمام من الصلاة، فلو أن الإمام -بعد أن فرغ من الرابعة- ذكر أنه صلى أربعًا ساهيًا، ثم نوى إتمامها لم يحتسب بهاتين الركعتين، بل يجب عليه أن يقوم، ويأتي بركعتين أخريين، ولا يجوز للمأموم متابعته فيهما؛ لأن الظاهر من الإمام، أنه قام ساهيًا في هذه الحالة. وإن نوى القصر خلف المسافر، ثم أفسد الإمام صلاته، ثم قال: كنت نويت القصر، كان للمأموم أن يتمها مقصورة، وإن قال الإمام: كنت نويتها تامة لزم المأموم أيضًا أن يتمها. وإن انصرف ولم يعلم بماذا أحرم الإمام، ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص: أنه يلزمه أنه يتمها؛ لأنه يشك في عدد الركعات، فلزمه البناء على اليقين. والثاني وهو قول أبي العباس: أن له أن يقصر؛ لأن الظاهر من إمامه أنه يقصر.
وجملة ذلك: أنه إذا صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فرعف الإمام، واستخلف مقيمًا كان على المأمومين أن يتموا الصلاة. وقال أبو حنيفة: (لا يلزم المسافرين الإتمام؛ لأنهم يبنون على حكم الإمام الأول). ودليلنا: أنهم مؤتمون بالمقيم، فأشبه إذا أحرموا خلف المقيم. وأما الراعف: فإن الشافعي قال: (يلزمه أن يتم). قال المزني: هذا غلط، بل هو بالخيار، إن شاء قصر، وإن شاء أتم؛ لأنه مسافر لم ينو الإتمام، ولا اقتدى بمقيم. قال أصحابنا: الصحيح ما قاله المزني. واختلفوا في تأويل قول الشافعي: فقال أبو إسحاق: تأويل ذلك هو أن الراعف لما رعف، واستخلف المقيم ذهب، وغسل الدم عن نفسه، ثم عاد، فائتم بالمقيم، وعليه يدل ظاهر كلام الشافعي، حيث قال: (لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى صار فيها في صلاة مقيم)، وهذا الراعف لا يكون فيها في صلاة مقيم إلا بهذا. وتأولها أبو العباس تأويلين غير هذا: أحدهما: أنه قال: بنى الشافعي هذا على القول القديم، وأن الصلاة لا تبطل إذا سبقه الحدث، فيكون في حكم المؤتم بالمقيم. وهذا التأويل ليس بشيء؛ لأنه وإن لم تبطل صلاته على هذا القول إلا أنه منفرد عن الجماعة. والتأويل الثاني حكاه أبو العباس عن بعض أصحابنا: أنه قال: يحتمل أن يلزمه التمام على القولين؛ لأن هذا الخليفة فرع له، ولا يجوز أن تكون صلاة الأصل أنقص من صلاة الفرع. وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما لزمه التمام؛ لأنه مقيم. ألا ترى أن الراعف لو لم يصبه الرعاف؛ لكانت صلاته أنقص من صلاة فرعه في حال كونه إمامًا له. وقال أبو غانم ملقي أبي العباس: تأويلها: هو أن الراعف لما أحس بالرعاف استخلف المقيم، وهو في الصلاة قبل أن يظهر الدم، فائتم بالمقيم في جزء من صلاته، ثم خرج الدم. وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما يستخلف وينصرف، فأما أن يستخلف، ويصلي مع خليفته فلا، هكذا قال ابن الصباغ؛ ولأن الشافعي قال: (فرعف، واستخلف مقيمًا). وظاهر قوله: أنه استخلف بعد أن رعف.
قال أصحابنا: تأويلها: إذا قدم المقيم قبل أن تفارقه الأولى، فأما بعد مفارقته: فإن الأولى تقصر دون الثانية.
وتأويل ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة يوم الرابع، ولم يكن انتهى سفره؛ لأنه كان يريد الخروج إلى عرفات، فلما خرج إلى عرفات لم ينو الإقامة فيها، فلذلك قصر فيه وجمع، فلما فرغ من نسكه، ونزل من منى لم يدخل مكة، وإنما نزل بالمحصب، فلما كان من الغد دخل مكة، وطاف للوداع، وراح إلى المدينة، فلم ينو الإقامة بمكة. فإن دخل المسافر في طريقه بلدًا له فيها أهل ومال، ولم ينو الإقامة فيها، فإن له أن يقصر فيها؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حج معه خلق كثير من المهاجرين، وكذلك حج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالناس في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حجًّا بالناس، وكان لهم بمكة دور، وأهل، وقرابة، ولم ينقل: أن أحدًا منهم أتم الصلاة، بل نقل: أنهم قصروا فيها. ولأن الإقامة إنما تكون بنية الإقامة، أو بأن تحصل بدار إقامته، ولم يوجد شيء منهما. وحكى الطبري في " العدة" قولًا آخر: أن بنفس الدخول يصير مقيمًا، كدخوله دار إقامته، والأول هو المشهور.
وقال أبو حنيفة: (إذا نوى إقامة خمسة عشر يومًا، مع اليوم الذي يدخل فيه، واليوم الذي يخرج فيه أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر). وهي إحدى الروايتين عن ابن عمر، واختاره المزني. وحكي عن سعيد بن جبير: أنه إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر. وروي عن ابن عمر رواية أخرى: (أنه إن نوى إقامة ثلاثة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر). وروي عنه رواية ثالثة: (إن نوى إقامة اثني عشر يومًا أتم، وإن نوى دون ذلك قصر). وقال علي وابن عباس: (إن نوى إقامة عشرة أيام أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر). وقال ربيعة: إن نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة. وقال الحسن البصري: إذا دخل المسافر البلد أتم الصلاة. وقالت عائشة: (إذا وضع المسافر رحله أتم الصلاة، سواء كانت في البلد أو خارجًا منها). دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا». ووجه الدلالة منه هو: أن المهاجرين حرمت عليهم الإقامة بمكة قبل فتحها، فلما صارت دار إسلام تحرج المسلمون من الإقامة فيها؛ ليكونوا على هجرتهم، وكانوا لا يدخلونها إلا لقضاء نسك، فلما أذن لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إقامة الثلاثة دل على أنها في حكم السفر، وما زاد علها في حكم الإقامة، وفي هذا دليل على أكثر المخالفين. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة بمكة، ومنى، وعرفات»، وفي هذا دليل على باقي المخالفين فيها. وأما يوم الدخول ويوم الخروج: فلا يعتبر؛ لأنه يشق مراعاة الزمان والساعة التي يدخل فيها أو يخرج، وضم بعضه إلى بعض، فسقط اعتبار ذلك.
وقال الخراسانيون: هل يكون كالإقامة في بلد؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن نوى الإقامة عند مواجهة العدو. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه الإتمام). دليلنا: أنه نوى الإقامة مدة الإقامة، فأشبه إذا نوى الإقامة بقرية.
أحدهما: يلزم العبد والزوجة الإتمام؛ لأنهما قد نويا الإقامة، فصارا كغيرهما. والثاني: لا يلزمهما؛ لأنه لا اختيار لهما في الإقامة. ويحتمل أن يكون إذا نوى الجيش الإقامة مع الإمام، أو الأمير من قبله، ولم ينو هو الإقامة على هذين الوجهين.
وإن كان لا يدري متى تتنجز حاجته، وقد تتنجز في أربع، وفيما دونها، وفيما زاد عليها، فقد اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: له أن يقصر إلى أن تبلغ إقامته إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن عام الفتح قولًا واحدًا، وقد اختلفت الرواية في قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن. ففي رواية: (أنه أقام سبعة عشر يومًا). وفي رواية: (أنه أقام ثمانية عشر). قال في "الإبانة" [ق \ 88] وهو الأصح. وفي رواية ثالثة ذكرها في "الإبانة" [ق \ 88] (أنها عشرون يومًا). وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة، جمعت هوازن قبائل العرب، وأرادت المسير إلى قتاله، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيمًا يتخوف من ذلك، وينتظرهم ليقاتلهم، وهو يقصر الصلاة، فأقام المدة التي ذكرناها. فإن زادت إقامته على ذلك، ففيه قولان: أحدهما: يجوز له أن يقصر؛ لأنه إقامة في مدة، على تنجز حاجة يرحل بعدها، فجاز له القصر فيها، كالإقامة في سبعة عشر يومًا. والثاني: يلزمه الإتمام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وهذا ليس بضارب؛ ولأن الأصل التمام، إلا فيما وردت فيه الرخصة، وهو قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونفي ما زاد على الأصل. وقال أبو إسحاق المروزي: له أن يقصر أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها ثلاثة أقوال: أحدها: يجوز له أن يقصر أبدًا. والثاني: له أن يقصر إلى أن يبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يتم فيما زاد عليها، ووجههما ما ذكرناه. والثالث: يلزمه الإتمام بعد الأربع؛ لأن الإقامة أبلغ من نية الإقامة، فإذا لزمه الإتمام بنية إقامة أربعة أيام، فلأن يلزمه الإتمام بالإقامة فيما زاد عليها أولى. وقال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 88] له أن يقصر ثلاثة أيام قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها قولان: أحدهما: يقصر أبدًا. والثاني: يقصر ما لم تبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويتم فيما زاد عليها. فأما الإقامة على حرب: فلا فرق بين أن يكون مقاتلًا في الحال، أو يكون متخوفًا من القتال، والحكم فيه واحد، فينظر فيه: فإن لم ينو إقامة مدة، بل نوى أنه متى انقضى القتال رحل، فهو كما لو نوى الإقامة على تنجز حاجة يرحل بعدها، على ما مضى من الطرق. وإن نوى إقامة أربعة أيام، فما زاد على ذلك ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز له القصر؛ لأنه نوى إقامة أربعة أيام، فهو كما لو نوى الإقامة على غير حرب. والثاني: له أن يقصر؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة على قتال هوازن المدة التي ذكرناها، وهو يقصر الصلاة. ولما روي: أن رجلًا سأل ابن عباس، فقال: إنا نغزو بخراسان، فتطول المدة؛ أنقصر؟ فقال: (اقصروا، ولو بقيتم عشر سنين)، وروي: (أن أنسًا أقام بنيسابور سنة يقصر الصلاة على حرب)، و (أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة). قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نزل المسافر قرية، فأقام بها أربعة أيام، من غير نية الإقامة لم يكن له أن يقصر بعدها. وقال أبو حنيفة: (يقصر ما لم ينو الإقامة). دليلنا: أن وجود الإقامة عيانًا وحقيقة، أقوى من نية الإقامة، ولو نوى هذه المدة لم يقصر كذلك إذا وجد حقيقة. |